يتفق التحالف السياسي الذي يحكم مصر حالياً، بين الإخوان المسلمين وفلول جهاز الدولة التابع للنظام القديم وبعض رجال أعماله، مع فلول الوطني المحلول المنافسين لهذا التحالف على شيء أساسي: 30 يونيو ثورة جديدة مضادة لثورة يناير. الطرف الأول يقدمها كانقلاب على ثورة يناير على أساس أن معارضة حكمه من معارضتها. أما الطرف الثاني، فهو يرغب في تسييد فكرة أن ثورة الغضب الشعبية أمس هي تصحيح جذري لثورة يناير التي كانت سبباً في وصول الإخوان للحكم، وأن الثورة نفسها خطأ.
لكن مسببات هذا الزخم الشعبي المتراكم الذي فاجأ بيئة السياسة المحتقنة المختنقة بتفاعل هائل مع مبادرة شبابية، رأينا مئات مثلها توقفت قبل أن تبدأ، تؤكد لنا حقيقة أنها ثورة تحاول إكمال برنامجها فى إسقاط النظام القديم، وهو البرنامج الموءود على ما يقرب من سنتين ونصف. فبمعنى ما لم تحقق ثورة يناير انتصاراً نهائياً سوى في إسقاط مبارك وبعض رجاله وحل حزبه الحاكم، بينما حرص المجلس العسكري ومن بعده الإخوان على إعادة إنتاج النظام القديم سياسياً وأمنياً واقتصادياً بما لم يسمح بترجمة تعديلات ميزان القوى الاجتماعي والسياسي المترتب على اقتحام ملايين العاديين عالم السياسة إلى مستوى توزيع السلطة. لم تتحقق حتى الإصلاحات الأولية في الأجور وإعادة توزيع الثروة ومحاصرة الفساد، ولا في إصلاح الشرطة وتخفيف قبضة الأمن على المجتمع.
واستمر الفقراء، قبل غيرهم، يتحملون تدهور الأوضاع الاقتصادية نتيجة إصرار الحكام الجدد على المواءمة مع المصالح الاحتكارية القديمة المسيطرة عليه. تخبرنا رئاسة الجمهورية في حسابها لـ «عام على الرئاسة المصرية. خطوات وتحديات»، فيما تعده من تحديات حكمها، أن حكم مرسي شهد 7709 وقفة احتجاجية وفئوية و5821 مظاهرة ومصادمة. لم تخبرنا الرئاسة بمطالب هذه التحركات الجماهيرية غير المسبوقة في التاريخ الحديث، إذ أنها لو فعلت لك لبان كيف أنها خصم مباشر للثورة التي تدعي تمثيلها. فالاحتجاج ضد الفساد أو سوء توزيع الخدمات أو موظفي النظام القديم أو ممارسات الشرطة غير القانونية كانت لتكون سنداً لأي سلطة تتخذ من الثورة بوصلتها.
●●●
يحكى إريك هوبزباوم المؤرخ البريطاني الكبير الراحل، المولود فى الإسكندرية، عن العقد الخامس من القرن التاسع عشر في أوروبا، بعد أن انتصرت الثورة الفرنسية أخيراً، فيقول إنه كان من المحتوم «زوال نظامي الرق والسخرة قانونياً، عاجلاً أم آجلاً، وأنه كان «من المحتم أيضاً لا محالة أن الأرستقراطية المالكة للأرض، والملكيات المطلقة، ستندحر في جميع البلدان التى كانت تتنامى فيها برجوازية قوية مهما كان نوع التسويات والمعادلات السياسية».
أما القانون الثوري الذي فرض ذلك كما يقول المؤرخ في كتابه الكلاسيكى «عصر الثورة»، فهو أنه «كان من المحتم أن تُشحن الجماهير بالوعي السياسي وبالنشاط السياسى الدائم، وهذا هو الإرث الذى خلفته الثورة الفرنسية، مما يعنى أن هذه الجماهير ستسهم بدور رسمي في الأنشطة السياسية إن عاجلا أو آجلا... من المستحيل إرجاء هذه التغيرات، مهما كانت طبيعتها المؤسسية». إن الزخم الشعبى الذى شهدناه خلال العام هو ضمانة المستقبل إذ أنه يخبرنا قبل أي شيء أن الثورة رغم أنها لم تنتصر فهي لم تنهزم بعد.
استكمال الثورة وهبَّة يونيو
إن القوى التي دعت لهبَّة يونيو ليست متجانسة على الإطلاق. ففيها من يكن عداء مباشرا لثورة يناير يستتر في العداء للإخوان الذي يهدف لتثبيت النظام القديم لكن بمكانة أعلى لأجنحة مستبعدة حالياً، وهؤلاء يرحبون بعودة حضانة القوى الأمنية القديمة في صورة تدخل مباشر من الجيش. لكن منها أيضاً، وهؤلاء هم أغلبية من خرجوا للشوارع، من يعارض الإخوان للسبب العكسي تماماً وهو أنهم يعيدون إنتاج الفقر والاستغلال والاستبداد في إنعكاساتها جميعاً على حياتهم.
والحقيقة أن من صنعوا ثورة يناير، نفسها لم يتمتعوا بأي تجانس سوى في رحيل مبارك. حتى هذا الهدف لم يقتنع به البعض سوى في الأمتار الأخيرة. ومن قال إن الثورات الناجحة يجب أن يتجانس صانعوها. يخبرنا التاريخ أن دعاة الثورة الأمريكية وحتى الفرنسية، وهما ثورتان غيرتا التاريخ، كانوا يرغبون في إعادة نظام قديم، «حتى أدرك هؤلاء إبان حدوثهما أن من المستحيل استعادة القديم وأن ثمة حاجة للإقدام على مشروع جديد بالكامل»، كما تخبرنا الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت فى كتابها «في الثورة».
وفى ثورة 1905 في روسيا كانت دعوة للتظاهر وتقديم التماس للقيصر من نقابة عمالية أسستها الشرطة السرية هي المفجر لانتفاضة جماهيرية نتج عنها سيطرة العمال على مصانعهم عبر مجالس تمثيلية مباشرة ثم فرض برلمان منتخب بعد أن تغير وعي الجماهير العمالية في المعركة في اتجاه توسيع المطالب والحركة إلى ما يتجاوز بكثير تقديم عريضة استعطاف للقيصر.. إلى ثورة.
●●●
لقد وضعت هبة يونيو هدفاً لها إسقاط الرئيس مرسي سواء من الشارع أو عبر انتخابات رئاسية مبكرة. لكن هل هذا هدف واقعي؟ يتبنى النظام الحاكم بقيادة الإخوان تكتيكاً متشدداً في التعامل مع الغضب الشعبي والمعارضة السياسية، لا يسمح بمناورات الاستيعاب أو الحلول الوسط السياسية.
وهكذا يتطلب تنحي مرسي أو قبوله انتخابات رئاسية مبكرة تغييراً كبيراً في ميزان القوى الذي يمتلك فيه الرئيس الإخواني تأييداً من أنصار ومؤيدين لم يتمتع به مبارك. وهذا التغيير لن يأتي إلا عبر طريق من اثنين: الأول يدافع عنه من يحاولون وأد الثورة وهو دخول المؤسسة العسكرية طرفاً عبر سيناريو المواجهات الدامية أو غيرها لتفرض تنحي مرسي وتركيب غيره عبر إعادة ترتيب تحالف النظام القديم الحاكم، وهو ما يعني شروطاً أسوأ بكثير للقوى الاجتماعية والشعبية التى تطمح لاستكمال الثورة.
أما السيناريو الآخر، وهو من النوع الذي لا يحسب الحكام، ومن يسير على سيرهم فى خوض معارك السياسة عبر جلسات الشاي بالياسمين أو في بعثات طرق الأبواب فى واشنطن، حسابه عادة: هبة جماهيرية هائلة لا تكتفي بالحشد في الميادين، وإنما تنازع الحكام فى سلطتهم الاقتصادية عبر الإضراب العام، وهي هبة لا يمكنها غير أن تكون في مواجهة مفتوحة واضحة ومكشوفة مع تحالفات إعادة إنتاج النظام القديم في الحكم بمكوناته المتنافسة أحياناً والمتعاونة أحياناً أخرى من الإخوان والعسكر والفلول.
وهي هبة يفتح انتصارها باباً لسياسة جديدة ونظام جديد بحق تتخلق مؤسساته وأحزابه الحاكمة وأشكاله التنظيمية الديمقراطية المهيمنة قاعدياً في فرز المعركة وليس قبلها إذ أنها شرط له وليس العكس. بغير هذا وذاك، تبقى هبة يونيو محطة ضغط أهميتها من أهمية وحجم الحشد الشعبي الواسع، الذى كلما زاد كلما حوصرت سياسات الثورة المضادة بطرفيها. محطة تمهد لمعركة أخرى قادمة لا محالة تحت الراية الوحيدة التي تمثل انتصار ثورتنا: الشعب يريد إسقاط النظام.
[ عن جريدة "الشروق" المصرية ويعاد نشره بالاتفاق مع الكاتب]